Jumat, 21 September 2007

ابن عربي 560-638 هـ/1165-1240


ابن العربي ذروة سامقة من ذروات التصوف في الإسلام. ولد في مرسية، جنوب إسبانيا، وتوفي في دمشق. وفي هاتين الواقعتين الجغرافيتين البسيطتين، المتعلقتين ببداية حياته ونهايتها، وحدهما إشارة إلى تلك السيرورة الغنية والقَدَر المركَّب للتأهيل والسلوك الروحيين اللذين كابدهما ذلك الرجل الخارق بين الأندلس والمقاطعات الشرقية للعالم الإسلامي آنذاك.

وكما يشير بوضوح اسمُه الكامل – أبو بكر محمد بن العربي (المختصر عادة إلى "ابن عربي") الحاتمي الطائي – كان، بوصفه ينتسب إلى قبيلة طيء، عربيًّا قحًّا. وقد بدأ سلوكه متقيِّدًا بالشريعة والسنَّة، لكن ميله الصوفي الفطري وسلوكه الروحي قرَّباه إلى حدٍّ كبير من النمط الشرقي، الفارسي بخاصة، من الروحانية، ألا وهو التشيع، على حدِّ ما يذهب إليه المستشرق هنري كوربان. فمع أنه لم يتشيَّع رسميًّا قط، وبقي متسنِّنًا حتى وافته المنية، فإن العقيدة التي استكمل بناء أركانها مع نضجه العقلي–الصوفي، استنادًا إلى خبراته الرؤيوية الخارقة في "عالم المثال"،[1] كانت شديدة التساوُق مع روح الإسلام الشيعي الفارسي. ودليلنا على ذلك أن ابن عربي وجد العدد الأكبر من مريديه وخلفائه في إيران الشيعية وبين أبناء الباطنية الشيعية الإسماعيلية. وحتى اليوم، تشكِّل إلهيات ابن عربي، إلى جانب – أو بالتأليف مع – إلهيات السهروردي القتيل (شيخ الإشراق) أساس النظر العقلي، الحِكَمي–العرفاني، لطالبي المعرفة المسلمين الفرس. والحق أن لقبه "محيي الدين" يتألق بقوته الحية عندما يُنظَر إليه بمقتضى الدور الذي لعبه في صيرورة التكوين التاريخي للإسلام الإيراني. ومن ألقابه الأخرى الشهيرة "الشيخ الأكبر"[2] الذي يقدِّم ابن عربي بوصفه من أعظم مشايخ الصوفية، إنْ في الروحانية السُّنية أو في الروحانية الشيعية.



إن ابن عربي، عبر العمق الفريد لخبرته الصوفية، المتميِّزة بوفرة من الصور "العينية"، وأسلوبه العويص في عرض عقيدته، ولغته المبهمة عن قصد، هو من الصوفية الذين تستعصي عقائدُهم على أيِّ عرض مبسَّط. لذا فإن المقاربة المدرسية المعتادة بطريق العرض المنهجي (الحياة، الأعمال، الأفكار) تكاد تكون هنا بلا طائل يُذكَر، إذ تختزل بحرًا خضمًّا إلى سبخة راكدة. إن كلَّ واقعة من وقائع حياة الشيخ الأكبر الخارجية تتصف بقيمة رمزية تُحيل إلى جانب معيَّن من جوانب خبرته الصوفية أو الرؤيوية، بينما كلُّ جانب من جوانب خبرته الصوفية نفسها مترع بالمعاني الروحية الباطنية. فجميع هذه العناصر تندرج بذلك في كلٍّ عضوي واحد متماسك. ومن ثَمَّ فلن نتمكَّن في هذا المقام إلا من تقديم نبذة موجزة عن حياة ابن عربي الخارجية–الداخلية، وذلك بمَفْصَلَتها تعسفيًّا إلى ثلاثة أطوار كبرى:

1. التأهيل العقلي والروحي للشيخ في الأندلس؛
2. خبرة الحب في أثناء طوافه حول الكعبة؛ و
3. مرحلة نضجه الصوفي–الميتافيزيائي.

1. الأيام الأولى في الأندلس

تلقَّى ابن عربي تعليمه الإسلامي المبكر في ذلك المركز العقلي والروحي الكبير الذي كانتْه إشبيلية، التي جاءها وعمره آنذاك لا يتجاوز الثمانية، وأقام فيها حوالى ثلاثين سنة. هناك كرَّس نفسه، على بعض أكابر علماء المدينة، لدراسة العلوم النقلية: القرآن، الحديث، فقه الشريعة، الكلام والفلسفة. وقد كانت إشبيلية أيضًا من أهمِّ مراكز التصوف، يقيم فيها عددٌ من مشاهير مشايخ الصوفية. وهكذا فقد انجذب ابن عربي، انجذابًا جدَّ طبيعي، إلى سلوكهم ورياضاتهم وتعاليمهم. ولدى بلوغه العشرين، كان مكتمل الإدراك لطبيعة "بعثته" الروحية الفريدة، ودخل طريق الصوفية دخولاً لا رجعة عنه.

ومما يستلفت النظر بصفة خاصة، في هذا الصدد، لقاؤه مع الوليَّة الشيخة فاطمة القرطبية، التي ظهرت له في الرؤيا محاطة بهالة سماوية. كان يشعُّ من شخصها باستمرار جوٌّ من الجمال الباهر، بحيث كانت تترك لناظرها انطباعًا بأنها لم تتخطَّ عقدها الثاني، على ما يروي ابن عربي؛ فكلما مَثُلَ الفتى محمد بين يديها تعذَّر عليه ألا تحمرَّ وجنتاه حياءً في حضرتها. وقد قالت له فاطمة: "أنا أمك الإلهية"، معترفة به ابنًا روحيًّا. وبذلك، بوصفه واحدًا من مريديها المقرَّبين، بويِع بأول أسرار الطريقة. وإنه لذو مغزى أن مبايعته بطريقة التصوف تمَّتْ عبر خبرة حبٍّ روحي من هذا المستوى؛ إذ إن أولى خبراته في الحبِّ تدل سلفًا على إلهيات المحبة التي بسطها ابن عربي فيما بعد في مكة طائفًا حول الكعبة الشريفة.

وبوصفه فتى أمرد، اعتنق ابن عربي حياة الدَرْوَشة، وطفق يقوم بسياحات طويلة في إسبانيا وشمال أفريقيا – قرطبة، ألمرية، تونس، فاس، مراكش – حيث اجتمع إلى كبار مشايخ التصوف فيها. وتجدر الإشارة، بصورة خاصة، إلى زيارته لقرطبة، حيث كان بينه وبين ابن رشد، الفيلسوف المشَّائي الكبير، ممثِّل التيار الأرسطي الصحيح في الفلسفة الإسلامية، لقاءٌ عجيب. فالمقابلة التي تمَّت بينهما بمبادرة من ابن رشد كانت حاسمة الأهمية لكلا الصوفي الشاب والفيلسوف الكهل، من حيث إنها ألقت الضوء على التبايُن والتعارض بين طريق النظر العقلي المنطقي وبين طريق الخيال العرفاني، مما كان لا بدَّ له من أن يؤدي إلى انشعاب الفكر الإسلامي برمَّته فيما بعد. زِدْ على ذلك أن واقعة أنه كانت للصوفي الشاب اليدُ الطولى على الفيلسوف المشَّائي في تلك الحادثة، تاركًا مُناظرَه في النهاية مُفحَمًا، تجيز لنا وضع إصبعنا بدقة على الفيصل بين عقيدة ابن عربي وبين خبرته الصوفية، فيتبيَّن لنا كيف يجتمع التصوف كحياة والعقيدة المعبِّرة عنه واحدهما إلى الآخر في الإدراك الروحي. فالأمر لم يكن مجرَّد غلبة التصوف على الفلسفة؛ إذ إن خبراته الصوفية الرؤيوية كانت وثيقة الصلة إلى حدٍّ كبير بنظر عقلي بالغ الدقة، متَّكئة عليه ومدعِّمة له على حدٍّ سواء. فابن عربي صوفي كان، في آنٍ معًا، معلِّمًا حقيقيًّا في الفلسفة، في شقَّيها المشَّائي والأفلاطوني، بحيث إنه استطاع – أو بالأحرى، كان لا بدَّ له – أن ينظِّر لخبراته الروحية في عقيدة كلِّية تشمل الكون بأسره، كما سنحاول أن نبيِّن بإيجاز، فيما يتعلق ببنيان إلهياته في وحدة الوجود التي ستكون لنا عودة إليها في سياق المادة.

2. حول الكعبة

وفيما هو يدنو من منتصف الثلاثينيات من عمره قرَّ ابن عربي على مغادرة مسقط رأسه إلى الأبد. وقد حضَّه جزئيًّا على اتخاذ هذا القرار الوضع الديني–السياسي المقلقَل في المغرب الإسلامي (الأندلس وشمال أفريقيا)، حيث لم يدعْ تزمُّت العلماء و"فقهاء الرسوم" وتعصُّبهم مجالاً لبسط أيِّ منظور لاهوتي جديد، ولكن بخاصة بسبب رؤيا رآها في العام 1198 في مرسية، حيث أمره طائر يطير حول العرش الإلهي المحمول على أعمدة من نور بشدِّ الرِّحال فورًا نحو مشرق العالم الإسلامي. وبذلك بدأ الطور الثاني من حياته الخارجية–الداخلية الممتد من العام 1200 حتى العام 1223: 23 سنة من التجوال في الشرق الأدنى، حتى حطَّ الرحال أخيرًا في دمشق.

في العام 1201 – وكان له من العمر آنذاك 36 سنة – زار ابن عربي للمرة الأولى مكة المكرمة، وفيها نزل في ضيافة أسرة فارسية أصفهانية شريفة. ولقد كان ربُّ الأسرة نفسه شيخًا صوفيًّا هاجر من إيران إلى الحجاز وشغل منصبًا رفيعًا في مكة.

وبحسب رواية ابن عربي نفسه، كانت لهذا الشيخ الفارسي بنت اسمها نظام، فتاة باهرة الجمال، ذات باع عقلي وخبرة روحية عميقة؛ وسِحْرُ لَحْظِها، وحلاوة منطقها، وتواضع هيئتها اللطيف، كما يقول، كانت من العظمة بحيث إن حضورها كان يفتن كلَّ من يجلس في حضرتها. وهكذا وقع ابن عربي في حبِّها من فوره. وقد عبَّرت نفسُه المفتونة عن هذه الخبرة في ديوانه الشهير ترجمان الأشواق.

يبدو ترجمان الأشواق من حيث الظاهر، أي لدى قراءته قراءة سطحية، وكأنه مجموعة قصائد غزل عادية مفعمة بصور عشقية دنيوية. والواقع أن غالبية العلماء والفقهاء فهموه على هذا النحو؛ وهو أمر أتاح لمن كانوا دومًا في ارتياب من صحة تعاليم ابن عربي إسلاميًّا ذريعةَ رميه بالفساد الأخلاقي. لكنهم، باتخاذهم، هذا الموقف من قصائد الديوان، فضحوا جهلهم بأن صورة الفتاة الفارسية الجميلة نظام، إذ ترتقي من عالم الأجسام إلى البُعد الرؤيوي أو "الخيالي" للوعي، تتحول إلى تجسيد عيني للـ"أنثى الأزلية"، وتصبح صورة متجلِّية للـ"حكمة الخالدة" sophia æterna، بما يشبه بياتريتشه، حبيبة دانتي في الكوميديا [الإلهية]. والديوان كلُّه، بهذه المثابة، هو التعبير الغزلي لإنسان سورِر بـ"دين الحب"، أو بما يدعوه هنري كوربان البُعد "الحِكَمي" sophianic للحب.

وبقصد توضيح هذه المسألة كتب ابن عربي نفسه شرحًا مطوَّلاً على الترجمان. وهذا المصنف ذو أهمية باطنية قصوى، من حيث إنه يلقي ضوءًا على واحد من المبادئ الأساسية الحاسمة في تعاليم ابن عربي: التأويل، الذي يعني حرفيًّا "إرجاع الشيء إلى أوَّله".[3] وهو يشير، اصطلاحًا، إلى طريقة معينة لتعليل شيء، مهما كان المرئي منه على السطح، وسواء كان نصًّا كاملاً أو مقطعًا أو عبارة أو حتى كلمة واحدة، بالرجوع إلى معناه "الخام"، غير المرئي على السطح.

يُفهَم من ذلك أن استعمال التأمل لم يكن، من أيِّ وجه من الوجوه، مقتصرًا على شرح قصيدة غزلية، بل على العكس؛ إذ بعدما يرسخ المبدأ كان يتيح منهاجًا تفسيريًّا ذا تطبيق واسع مَرِن لكلِّ المهتمين باستنباط المعاني الباطنة المكنونة في أعماق نصٍّ معين. ولقد استعمل ابن عربي المنهاج في تأويل القرآن الكريم والحديث الشريف. والواقع أن كافة التعاليم التي صاغها ابن عربي في النصف الثاني من حياته تُعتبَر ثمرة تطبيق مبدأ التأويل على القرآن والحديث اللذين كان يستنبط معانيهما "الباطنة" في ضوء خبراته الرؤيوية.

ولقد توارث مبدأ التأويل عدد من مشايخ الصوفية والعارفين الكبار في العصور اللاحقة. وفي التشيُّع احتل التأويل المنزلة الأرفع في التأمل الفلسفي، بحيث إنه أصبح سمة نوعية من سمات البنيان العقلي الشيعي برمَّته وخاصية من خاصياته الأساسية.

على أنه لا بدَّ لنا من أن نشير هنا إلى أن التأويل لم يكن عند ابن عربي مجرَّد مسألة تفسير لغوي، لفظي، بل كان يتسم بمغزى أونطولوجي. فعنده أن كلَّ ما هو موجود في عالم الحسِّ يستر في أعماقه الأونطولوجية حقيقة باطنة، الأمر الذي يعني أن كلَّ ما في الوجود تجلٍّ خاص. بعبارة أخرى فإن كلَّ شيء صورة ظاهرة يتجلَّى فيها الحق غير المرئي؛ وعالم الوجود الخارجي ("عالم الشهادة") ليس على الحقيقة إلا صورة ظاهرة على السلَّم الكوني لعالم الغيب، يتجلَّى من خلالها الحق باسمه "الباطن"، برهةً إثر برهة، عبر صور لا نهاية لها من التعيُّنات.

3. نضج التعاليم

يُنسَب إلى ابن عربي عددٌ ضخم من المؤلَّفات (200 ونيف على الأقل)، تتراوح بين المقالات القِصار والرسائل التي لا تتجاوز بضع صفحات وبين المصنفات الضخمة المؤلَّفة من آلاف الصفحات. وبين مؤلَّفاته يُعتبَر اثنان منها بخاصة جليلان بحق، إذ يشتملان على تعاليمه على أكمل وجه – وثانيهما خلاصة للأول: الفتوحات المكية وفصوص الحِكَم.

رُسِمَت الخطوط العريضة للـفتوحات وبُدِئَ بتدوينها بمناسبة زيارته الأولى لمكة في العام 1201، وانتُهِيَ من وضعها في دمشق بعد ذلك بأكثر من ثلاثين عامًا في العام 1237. والفتوحات، التي كثيرًا ما تُدعى "إنجيل باطن الإسلام"، عبارة عن "موسوعة" للتصوف بحق، تتناول – وإنْ بغير ترتيب اتباعي – نظريات في الإلهيات والكونيات، وخبرات صوفية، وعلومًا باطنية متنوعة، ورؤى وتأملات.

غير أن زبدة تعاليمه في الإلهيات، قولاً واحدًا، محتواة في الفصوص الذي ألَّفه في العام 1229 قبل وفاته بعشر سنين. وهو مصنف صغير بالقياس إلى الفتوحات، لكنه واسع بما لا يقاس في مبناه ومعانيه. ففيه نجد نظرية ابن عربي في النبوة، حيث يوصَف كلُّ نبي، وَرَدَ ذكرُه في القرآن أم لم يَرِدْ، بدءًا من آدم، في علاقاته بالأسماء والصفات الإلهية التي يختص بها، ويظهر في مقامه "الروحي" الفريد. وفي آخر سلسلة الأنبياء نجد نبيَّ الإسلام الذي يؤوِّل ابن عربي شخصيته في ضوء الحديث: "حُبِّبَ إليَّ من دنياكم ثلاث: النساء والطيب وجعلت قرة عيني الصلاة." وإن سلسلة الشروح على الفصوص التي كتبها مريدوه وأتباعه[4] تشكِّل وحدها تاريخًا للحكمة في حدِّ ذاتها. والعرض التالي لأسُس تعاليمه مستمَد أساسًا من الفصوص.

التأويل

يحتل ابن عربي في تاريخ التصوف منزلة إمام مذهب ما يُعرَف اصطلاحًا باسم وحدة الوجود. و"وحدة الوجود" موقف صوفي محدَّد هو نتاج للتطبيق الأونطولوجي لمبدأ "التأويل" السابق ذكره من خلال الخبرة الصوفية. والتأويل، كما ألمعنا، يبدأ كمنهاج في التفسير اللفظي، يذهب من ظاهر تعبير لغوي متوغلاً إلى باطن معناه. وهو، إذ يطبَّق أونطولوجيًّا، يشي بكونه منهاج عرفان إلهي ينطلق من ظاهر الأشياء إلى باطنها. والتأويل الأونطولوجي للبنيان الباطن للوجود يتم عبر سلوك الصوفي سلسلة من مراحل الخبرات الكشفية، تتصف كلُّ مرحلة منها برؤيا وجودية معينة.

إن منطلق السيرورة برمَّتها هو عالم الأجسام، كما يُرى بعين الإنسان العادي الذي يرى الكثرة الأونطولوجية في كلِّ مكان ولا شيء غير الكثرة. فهو لا يعرف العالم الجسماني إلا على هذا النحو؛ فيه توجد الأشياء متشعِّبة إلى ما لا نهاية، بما فيها هو، حيث كلُّ موجود قائم بذاته ومختلف في الأساس عن سواه. إنه لا يستطيع أن يرى الوحدة التي تكتنف الكثرة إلا بالعقل المجرَّد ("التوحيد الإرادي"). وعالم الوجود ليس في نظره إلا صعيدًا واحدًا من الصور والألوان، لا شيء وراءه أو فيما يتعدَّاه.

غير أن ابن عربي، عبر تطبيق التأويل الأونطولوجي، يمضي إلى ما يتعدى الأفق الأونطولوجي والعقلي للبشر العاديين ("العوام")، فيما يتعدى الظاهر؛ إذ إنه على يقين بأن للحقيقة بُعدًا أونطولوجيًّا هو الباطن، هو حصرًا ما ينبغي الغوص فيه. لكن هذا يتطلب سلوك طريق روحي معين؛ وإلا فإن البُعد العميق الملازم لـ"باطن" الحقيقة التي يتم السعي إليها لا ينفتح أبدًا.

الفناء

في نظر ابن عربي لا يستطيع الإنسان العادي رؤية الحق في صوره المتنوعة بسبب التفرُّع الأصلي لوعيه إلى ذات وموضوع؛ إذ إن الذات المتميِّزة عن الموضوع، أي الأنيَّة، مصنوعة بحيث إنها لا تتعرف في عالم الظواهر إلا على تكتلات من الأشياء المتكثِّرة بوصفها موضوعات عديدة للمعرفة. بذلك فإن على المرء، لكي يتخطى صعيد الكثرة الأونطولوجية، أن "يمحق" وعي أنيَّته. وإن السلوك الروحي الشاق، المحفوف بالأهوال، باتجاه هذا المقصد يقود المرء أخيرًا إلى اختبار ما يصطلح عليه الصوفية بـالفناء. و"الفناء"، اصطلاحًا، يعني اضمحلال الأنية، وينطوي على تلاشي عالم الوجود بأسره؛ إذ إنه حيثما لا توجد أية ذات عارفة لا يوجد، بالتالي، أيُّ موضوع معروف. والفضاء المطلق الذي يتحقق فيما يتعدى تفرُّع الوعي البشري إلى ذات وموضوع يتراءى بوصفه حقيقة سابقة على الوجود في لاتعيُّنها الغيبي؛ وابن عربي يدعوها الأحدية.

و"الأحدية"، المشتقة من الاسم الأحد، نفيٌ كلِّي غير مقيَّد لجميع الأشياء دون استثناء؛ وهي "الغيب المطلق" قبل أن يتجلَّى في شكل محدَّد، واللاتعيُّن قبل أن يتعيَّن، واللامصوَّر قبل أن يتصوَّر في صورة معيَّنة. وحتى الله، باعتباره نسبيًّا، هو واحد من الصور المتعيِّنة للأحدية المطلقة.

بذلك لا يدرك الصوفي الذي بلغ حال "الفناء" إلا الأحدية، فيرى الأحدية في كلِّ شيء، ولا شيء سواها. وفي حالة الإدراك الإلهي هذه يتحول العالم بأسره إلى "الأحد" بدون أدنى أثر للتصوُّر أو للتعيُّن. تلكم هي، بالمصطلح الصوفي، وحدة الشهود، التي كان الحلاج أبرز ممثِّليها. لكن الصوفي، كما يُحاجِج ابن عربي، ينبغي ألا يتوقف عند هذا الشوط من الخبرة الصوفية؛ إذ مَن لا يرى إلا الأحد، مَن يرى العالم برمَّته راجعًا إلى حالة أونطولوجية من اللاتمايز التام، مازال ناقص الإدراك. على الصوفي الكامل أن يخطو خطوة أخرى ليصبح ذا العينين، أي الإنسان القادر بحق على رؤية عالم الوجود بوصفه الجامع بين الضدَّين: الوحدة والكثرة. وإن حال الحقيقة هذه تتحقق بالخبرة في حال البقاء التي تتخطى حال الفناء.

من الواضح بأن الكثرة، في هذا السياق، تشير إلى البعد الظواهري للوجود، عالم الأشياء الظاهرة المتعيِّنة في تنوع لانهائي؛ إلا أن من الجليِّ أيضًا أن الكثرة، كما تتحقق في خبرة "البقاء"، ليست "الكثرة" بوصفها ضد "الوحدة". ولعل في وسعنا تقريب "الجمع بين الضدَّين"، الذي نحن في صدده، إلى الأذهان – على الرغم من تعذر ذلك – بالقول إن "ذا العينين"، بالمصطلح الصوفي، هو القادر على رؤية الحق في الخلق والخلق في الحق؛ أو باستعمال استعارة أثيرة إلى ابن عربي، في وسعنا القول إن "ذا العينين" هو القادر على رؤية المرآة والصور المنعكسة فيها، حيث الحق والخلق يلعبان، على التناوب، دور المرآة ودور الصور المعكوسة. إن رؤية الكثرة الملوِّنة للأشياء الظاهرة ليست، كما هي لدى العامة، "حجابًا" أونطولوجيًّا يحول دون رؤيته الحق المحض في حالة لاتعيُّن قصوى. كذلك لا تحول رؤيةُ "الأحد" دون ظهور الكثرة؛ فعلى العكس، يتمِّم كلُّ واحد منهما الآخر في إظهار البنيان الكلِّي للحقيقة، من حيث إنهما وجهاها الأصليان: الوحدة تمثِّل مظهر الإجمال والكثرة مظهر التفصيل. ومادمنا لا ندرك على هذا النحو جدلية العلاقة بين الوحدة والكثرة، في فعل معرفة إلهي–أونطولوجي، فإننا نبقى محرومين من رؤية كلِّية للحقيقة كما هي عليه حقًّا.

التجلِّي

إن ما حاولنا أن نترسَّمه لتوِّنا في بسط العلاقة بين اللامتعيِّن والمتعيِّن، كواقع من وقائع الخبرة العرفانية للحقيقة، يعيِّن البنيان الكلِّي لـ"وحدة الوجود". فهي مذهب خاص يقوم على رؤيا إلهية يختبرها الصوفي بوصفها التفاعل بين الوحدة والكثرة. والمصطلح الدال على هذا التفاعُل هو التجلِّي، الذي يُدعى بـالتعيُّن أيضًا.

وبالنسبة إلى تأرجح الوعي بين حالي "الفناء" و"البقاء"، يمضي "الأحد" المطلق تدرُّجًا، متحولاً إلى الكثرة الظاهرية، عبر فعل تجلِّيه وتعيُّنه؛ وبعبارة أخرى، ثمة في الوحدة نزوع أصلي أو ضرورة أونطولوجية، أو نوع من الطاقة المبدعة، التي يرمز إليها الأمر الإلهي كُنْ، والتي يطلق عليها ابن عربي اسم الحب أو المحبة. فعالم الوجود بأسره يُعتبَر بهذه المثابة ثمرة ما يسميه ابن عربي النَّفَس الرحماني.

جدير بالذكر هنا أن أول مظاهر الطاقة المبدعة للوحدة هي "الوحدة" نفسها؛ أي أن بنيان الوحدة، في حدِّ ذاته، ذو بعدين، ويحمل بهذه المثابة اسمين اثنين: الأحد والواحد. وهاتان الكلمتان المشتقتان من الجذر نفسه ليستا مترادفتين في لغة ابن عربي الاصطلاحية، حيث "الأحد" هو الوحدة المحضة – حقيقة الوجود في حالة لاتعيُّن مطلقة، بينما "الواحد" هو حقيقة الوجود نفسها في طور تبدأ فيه بالتوجُّه إلى الظهور.

بذلك يكون "الأحد" هو الوحدة فيما يتعدى جميع التعيُّنات وجميع الصفات؛ وبالتالي، فهو عصيٌّ على أيِّ علم، إنسانيًّا كان أم إلهيًّا. وبلغة الإلهيات يمكن وصف الأمر بالقول إنه حتى الله عندئذٍ لا يعرف نفسه، وإن وعي الله لنفسه لا يظهر إلا عند عبور وصيد الواحدية. "الأحد" بهذه المثابة غيب؛ بل هو الغيب المطلق أو غيب الغيب.

أما "الواحد"، على العكس، فهو الوحدة مضافةً إليها الصفات. وهذه الصفات المنطوى عليها في الوحدة تتحقق بوصفها أعيانًا ثابتة أونطولوجية، تُقابِل "مُثُل" أفلاطون. وهذه "الأعيان الثابتة" تعيِّن الصور التي تتمخض عنها الطاقة المبدعة للحقيقة المطلقة باستمرار ("تجديد الخلق مع الأنفاس"، بتعبير ابن عربي)، أي عن أشياء عالم الظواهر عند المرحلة التالية من التجلِّي الإلهي.

تلكم هي الخطوط العريضة لسيرورة "تجلِّي" المطلق، كما انكشفت لابن عربي، بدءًا من غيب الغيوب نزولاً حتى عالم الشهادة. وأهم نقطة يجدر الوقوف عندها في هذا الصدد هي أنه، بمقتضى ميلها الباطن الذاتي، تتفتَّح الوحدة – أو بدقة أكبر، تتحول – إلى الكثرة عبر سيرورة متدرِّجة من التجلِّي. فعلى الوحدة، بالضرورة حتمًا، أن تتجلَّى في صور ظاهرية؛ بعبارة أخرى، فإن الله لا يستطيع إلا أن "يخلق". فالمطلق لا يستطيع أن يستغني عن عالم الظواهر، مثلما أن هذا الأخير لا يستطيع أن يبقى إلا بفعل تجلِّي المطلق.

يبقى أن عقيدة ابن عربي لا تزال مدار جدل كبير. فلقرون طوال ظلَّ العديد من الفقهاء – وعلى رأسهم ابن تيمية – يعتبرون الشيخ الأكبر زنديقًا و"ماحي الدين".[5] لكنْ على الرغم من هذا النقد الدائم، تخلَّلت عقائدُه التصوف اللاحق برمَّته؛ وحتى الصوفية الذين لم يوافقوه على مذهبه لم يتورَّعوا عن إدراج دقيقِ تعريفاته في تصانيفهم. وتأثيره هو الذي يضفي على الآداب الصوفية، ولاسيما الشعر المقروض في حلقات الدراويش، تجانسه في المعنى والمبنى.

***

ديمتري أفييرينوس


للمزيد من المعلومات إقرأ إصدار معابر الخاص والمتعلق بمحي الدين ابن عربي

مراجع مختارة

- ابن عربي (محيي الدين)، الفتوحات المكية، بتحقيق وتقديم عثمان يحيى وتصدير ومراجعة إبراهيم مدكور، طب 3، الهيئة المصرية العامة للكتاب، القاهرة، 1987.

- ابن عربي (محيي الدين)، ترجمان الأشواق، دار صادر، بيروت، 1966.

- ابن عربي (محيي الدين)، تفسير القرآن، بتحقيق وتقديم مصطفى غالب، طب 3، دار الأندلس، بيروت، 1981.

- ابن عربي (محيي الدين)، ذخائر الأعلاق في شرح ترجمان الأشواق؛ ويليه الأمر المحكم المربوط في ما يلزم أهل طريق الله من الشروط، بتحقيق وتعليق محمد بن عبد الرحمن الكردي، مطبعة السعادة، القاهرة، 1968.

- ابن عربي (محيي الدين)، رسائل ابن العربي، مطبعة جمعية دائرة المعارف الإسلامية، حيدر آباد الدكن، 1948.

- ابن عربي (محيي الدين)، فصوص الحكم، بتحقيق وشرح أبو العلا عفيفي، طب 2، دار الكتاب العربي، بيروت، 1980.

- الجيلي (عبد الكريم)، الإنسان الكامل في معرفة الأواخر والأوائل، مكتبة صبيح، القاهرة، 1960.

- الحكيم (سعاد)، المعجم الصوفي: الحكمة في حدود الكلمة، دندرة للطباعة والنشر، بيروت، 1981.

- الشيبي (كامل مصطفى)، صفحات مكثفة من تاريخ التصوف الإسلامي، دار المناهل، بيروت، 1997.

- الكاشاني (عبد الرزاق)، اصطلاحات الصوفية، بتحقيق وتقديم وتعليق عبد الخالق محمود، طب 2، دار المعارف، القاهرة، 1984.

- نصر (سيد حسين)، ثلاثة حكماء مسلمين، بترجمة صلاح الصاوي ومراجعة وتنقيح ماجد فخري، دار النهار، بيروت، 1971.


0 Comments: